بنية الشّكل الفنّيّ وسرديّة القمع في (الخشبة) للقـاصّ لإماراتـيّ عبدالله صقــر أحمـد

شارك هذا المقال:

( إلى حسّـــان عـــزّت)

  أحمد عزيز الحسين

     تشكِّل القصّة عند القاصّ الإماراتيّ عبدالله صقر أحمد لحظةً أو ومضةً، ويتميّز شريطُها اللّغويّ بالقصر أو القصر الشّديد، كما تخلو من التّرهُّل والحشو، وتتميّز بالاقتصاد اللّغويّ والتّكثيف، وتحافظ القصّة عنده على العمود السّرديّ عموماً، وتحرص على خلق صراع بين طرفين متقاطِبَين بغية دفع الفعل الصّاعد إلى الأمام.

     ولا تصوّر قصص المجموعة (الشّخصيّة المحوريّة) في حالة الفعل بل تصوّرها عنصراً سرديّاً منفعلاً يتلقّى نتائج ما يجترحه الآخرون من أفعال، وهي تحرص على تغييب المكان، وتعويم الزّمان، والتّكتُّم على الدّلالة، وتهمل عند رسمها للشّخصيّة اسمَها وملامحها الإنسانيّة المُشخَّصة، إلّا أنّها تنثر في النّسيج السّرديّ أحياناً بعض الملفوظات الّتي تُحدِّد منبتها الاجتماعيّ، والحافز السّرديّ الّذي يُحرِّكها في المتن الحكائيّ نفسه.

     والشّخصيّة المحوريّة في (الخَشَبَة) لا تنهض بفعل مؤثّر في تطوّر الحبكة، وتنامي السّيرورة الجماليّة، ودفْعِ الفعل الصّاعد إلى الأمام، بل هي دريئة تتلقّى ردود فعل الآخرين عليها من خلال تنامي الفعل الدّراميّ، وهي، في هذا، تشبه الشّخصيّة المحوريّة لدى كافكا أو زكريّا تامر؛ إذ لا يُتاح لها الوقوفُ حتّى تسقط بشكلٍ مدوٍّ، وإذا نهضتْ فإنّها تتلقّى الصّفعات والرّكلات والسّياط المستمرّة من قبل رجال الشّرطة أو رجال الأمن، أو تُقابَل بالإهمال والحقد واللّامبالاة من القطيع أو الدّهماء؛ بل إنّ القطيع هو من يقف لها بالمرصاد؛ فيدمِّرها أو يُجهض فعلها، أو يتشفّى منها عندما تلقى عقاباً دمويّاً؛ محمِّلاً إيّاها مسؤوليّة ما حصل في الحيّز السّرديّ، متبرِّئاً من مسؤوليّته تجاه ذلك.

     وتنتهي الشّخصيّة المحوريّة عنده إلى مصير دراميّ فاجع دوماً، لكنّ فجائعيّة المصير الّذي تلقاه في نصوصه ليس مُملىً عليها من قوّة مفارقة للكون، كما هو الحال في المسرح اليونانيّ، أو من عطب داخليّ كامن فيها، كما هو الحال في القصّة الرّومانتيكيّة، بل إنّ المسؤول عن فجائعيّة مصيرها في المتن الحكائيّ هو سلطة قامعة كابحة للرّغائب، أو قطيع اجتماعيّ أمّيّ يهيمن عليه الجهل واللّامبالاة والحقد والكبت، وتحول هاتان القوّتان دائماً بينها وبين ما تحلم به، وتقفان لها بالمرصاد. 

      وتتحرّك الشّخصيّة المحوريّة في الحيّز السّرديّ عنده حركة عاديّة، وتعيش حياة عاديّة، وهي تنتقل من مكان إلى آخر محكومة بالاستجابة لحاجاتها الحيويّة اليوميّة،  ولا تفلح خلال هذا الانتقال في إقامة علاقات اجتماعيّة سويّة مع الشّريحة الّتي تنتمي إليها.

    واللّافت للنّظر أنّه ليس للسّلطة في قصص عبدالله صقر ملامح إنسانيّة مُشخَّصة بل لها فعلٌ قامعٌ وحسب، ومع أنّ الحيّز القصصيّ يفتقر إلى تصويرها الحسّيّ المُشخَّص، إلّا أنّها تملأ هذا الحيّز بأفعالها القامعة، ولا يتجلّى منها في هذا الحيّز إلّا ما يدلُّ على القمع؛  إذ ليس للسّلطة في قصصه ملامح بشريّة عاديّة، أو وجوهٌ إنسانيّة تنبض بالحياة، أو عيون ترشح بالتّعاطف مع الآخرين، بل لها أقدامٌ تركل البطون، و أحذيةٌ ترفس الوجوه، و بنادقُ تهرس الأضلع، ولا يصوِّر الكاتب من هذه السُّلطة إلّا الأقدام والأيدي (الّتي ترمز إلى القمع)، أمّا الوجوهُ فلا نعرف عنها شيئاً؛ فالسّلطة المسرودة عنده مُختزَلة إلى أقدامٍ وأيدٍ وحسب.

    أمّا في قصّة (السّقوط) فإنّه يصوِّر، فضلاً عن الأيدي والأرجل، الّتي تجيد الرّفس والرّكل والإدماء، وجوه رجال السّلطة بأنّها (عابسة)، ويضيف إلى ذلك أنّها تختفي خلف ذقون كثيفة الشَّعر، ويجعل لهؤلاء الرّجال لباساً مميَّزاً هو”اللّون الكاكيّ“، ولكنّه لا يخرج عند تصويره لهم عن أنّهم رموز للقمع، ويجعلهم جميعاً يحتلّون الحيّز القصصيّ، ويصادرون مَن يتحرّك فيه، ويخرجون عند اختراقهم لهذا الحيّز من دهاليز تحت الأرض مُثيرين الغبار والضّوضاء الشّديدة الّتي توحي بالرّعب وتوقّف الحياة.

    ومن اللّافت للنّظر أنّ عبدالله صقر لم يخفْ من مغبّة المطابقة بين النّصوص التي أنتجها والواقع الذي يُحِيل إليه، أوبين المؤلِّف وسارده، أوبين دلالة القصّة وفكر كاتبها، مع أنّ سبعينيّات القرن الماضي شهدت ذروة هذه المطابَقة، وكان شجاعاً في مقاربة متون حكائيّة تُعَدّ من المحرّمات في المجتمع العربيّ عموماً والخليجيّ خصوصاً، في مقدّمتها: الجنس، والدّين، والسُّلطة، ومع أنّه قام بمراوغات احترازيّة ليُخفي دلالته في ثنايا النّسيج السّرديّ؛ فعمّى المكان، وعوّم الزمان، ولجأ إلى الرّمز والقناع؛ وتكتّم على الدّلالة، إلّا أنّ الرّقيب الأخلاقيّ والأمنيّ وقف له بالمرصاد، فقرأ نصوصه على أنّها وثائقُ اجتماعيّةٌ أو سياسيّةٌ لا تخييليّةٌ، وطابَق بينها وبين الواقع المرجعيّ الذي تُوهِم به معتمداً في ذلك على  إشارات سرديّة مبثوثة في ثنايا النّسيج السّرديّ، من السّهل على ذي الخبرة أن يعثر عليها، مع أنّها ملمح عربيّ مُشترَك، وليست مقصورةً على حيّز اجتماعيّ واحد. وقد أفضت هذه القراءةُ المطابِقةُ إلى تغييب المجموعة عن قارئها ربع قرنٍ تقريباً؛ إلى أن أُفرِج عنها بتدخُّلٍ مباشَر من قبل الشّيخ عبد الله بن زايد آل نهيان/ وزير الخارجيّة، وقد جعلت هذه التّجربةُ كاتبَنا يتجرّع المُرّ، وينصرف عن الكتابة، بعد أن تيقّن من صعوبة الإفراج عن نصوصه المُشعّة المكتنِزة بالدّلالات؛ وهكذا خسِرْنا مبدِعاً لم يُتَح له أنْ يكمل رحلة الخلق الباهرة الّتي بدأها، مع أنّه ترك بصمة مهمّة في مسيرة القصّة الإماراتيّة لا يمكن أن تزول. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مقتطف من دراسة لي عن مجموعة “الخشبة” للقاصّ الإماراتيّ الرّائد عبدالله صقر أحمد، نُشِرَتْ في كتابي “بلاغة السّرد وتشكيل الدّلالة/ قراءات في السّرد الإماراتيّ المعاصر” الصّادر عن الهيئة العامّة السّوريّة للكتاب في عام 2023.  

شارك هذا المقال: