بين الاحتواء والمقاطعة.. رُهاب اليمين المتطرف!

شارك هذا المقال:

كيڤورك خاتون وانيس

يُعيد صعود اليمين المتطرف في أوروبا إلى الاذهان صورة الفاشية والنازية المرعبة التي تصدرت مشهد الحياة السياسية وأشعلت الحرب العالمية الثانية. لكن إلى أي حد يتماثل صعود الفكر القومي المتطرف في  تلك الحقبة مع ما يحدث اليوم من صعودٍ لليمين المتطرف، وما هي الطريقة الأسلم للتعاطي مع هذا الصعود خاصة وأن جمهور هذا التيار لا يُستهان به من حيث الكم والنوع وهو في تزايد ؟

لمعرفة مدى التطابق أو الاختلاف بين الحالتين، من المفيد إجراء مراجعة سريعة لتجارب وصول اليمين المتطرف إلى السلطة في أوروبا في مرحلة ما بين الحربين، وبما أن المجال لا يتسع لاستعراض كل التجارب السابقة لذا دعونا نتناول تجربة الحزب النازي في ألمانيا ليس فقط لأنها كانت وراء دمار أوروبا في منتصف القرن الماضي، بل بسبب الفكرة الشائعة بأن وصول هذا الحزب إلى سدة الحكم كان ديمقراطياً وأن هتلر لم يستثأر بالسلطة المطلقة إلا استناداً إلى تدابير قانونية وبدعم شعبي عفوي!

بعد فشل محاولة الانقلاب الذي قام به الحزب النازي في 1923 ، المعروفة باسم  انقلاب ميونيخ، للاستيلاء على السلطة والتي على أثرها سجُن هتلر، أيقن بعد خروجه من السجن في 1924 بأنه من الصعب تحقيق أحلامه في الوصول إلى رأس السلطة عن طريق القوة في هذه المرحلة، قام على إعادة تنظيم الحزب وخاصة SA  أو فرقة العاصفة  بالإضافة إلى انشاء الـ SA أو فرقة الحماية الخاصة لاستخدامهما في ترهيب الخصوم وإسكات المنتقدين.

في هذه الاثناء دخلت  ألمانيا في أزمة اقتصادية خانقة نتيجة لما عُرف بالكساد الكبير أو انهيار بورصة وول ستريت 1929 إذ أنها كانت تعتمد على القروض الأمريكية، الأمر الذي لعب دوراً مساعداً في تعزيز الحملة الدعائية التي كان يقوم بها الحزب النازي ضد الحكومة.

كما لعب الاضطراب السياسي في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من القرن الماضي دوراً مهماً في مساعدة النازيين على الوصول إلى السلطة. ففي غضون 3 سنوات جرت ثلاث انتخابات واستقالت 3 حكومات في ألمانيا !

هكذا أدى تفاقم الوضعين السياسي والاقتصادي إلى حصول الحزب النازي على أكبر نسبة أصوات في انتخابات 1932 لكنه لم يكن كافياً لتشكيل الحكومة بمفرده كونه لم يحصل على الأغلبية  فاضطر إلى تشكيل حكومة ائتلافية وأصبح هتلر مستشار ألمانيا (رئيس حكومة) في كانون الثاني / يناير 1933.

بهذه الطريقة وصل النازيون إلى السلطة لكنها سلطة محدودة، حيث كانوا مجرد حزب واحد في حكومة ائتلافية ثلاثية الأحزاب، ما دعا هتلر بعد عدة أيام من استلام السلطة  إلى اعلان إجراء انتخابات جديدة كي يضمن الأغلبية في البرلمان ويستأثر بالسلطة.

قبل موعد إجراء الانتخابات بعدة أيام وقعت حادثة كان لها الدور الاكبر في تمهيد الطريق “الديمقراطي” للحزب النازي  للاستحواذ على السلطة المطلقة ألا وهي حريق مبنى البرلمان الالماني( الرايخستاغ) في نهاية شهر شباط / فبراير 1933 الأمر الذي اضطر رئيس الدولة إلى إعلان حالة الطوارئ، الأمر الذي منح  هتلر (كونه رئيس الحكومة ) وحزبه مستند قانوني لملاحقة كل الخصوم واضطهادهم، فقد  قامت كتيبة العاصفة SA بحملة ترهيب عنيفة ضد جميع معارضي النظام النازي مما دفع الكثيرين إلى التصويت لصالح الحزب النازي خوفاً على سلامتهم؛ هكذا لم تكن الانتخابات حرة أو نزيهة.

في الحقيقة لا بد من التوقف قليلاً عند حادثة حريق البرلمان كونها المفصل الاساسي في تاريخ النازية في ألمانيا.

كانت الدعاية الاعلامية واحدة من الأدوات الاساسية التي اعتمدت عليه النازية ونجحت فيه، لذلك استطاعوا تقديم رواية حول هذه الحادثة أصبحت مع الوقت هي النسخة المعتمدة لدى معظم الاعلام الداخلي والخارجي  والاهم من ذلك بثت الذعر بين صفوف الناس، بأن احراق البرلمان عمل تخريبي قامت به جهات معينة  تهدف إلى تقويض اركان الدولة، فتم توجيه التهمة إلى شاب اسمه مارينوس فان دير لوبا الذي كان متواجداً حينها في البرلمان وهو عضو في رابطة الشباب الشيوعي الهولندية وتم اعدامه بالمقصلة في 1934 !

لكن تزامن دعوة هتلر ( ولم يكن قد مضى على تسلمه منصب رئيس الحكومة عدة أيام) إلى انتخابات جديدة مع وقوع الحريق وما تبع ذلك من اجراءات وتدابير رئاسية وحكومية يدعو إلى التشكيك في رواية الحكومة بشأن الحريق، فإما أن يكون النازيون هم من قاموا بذلك والصقوا التهمة بهذا الشاب وبالتالي تصفية الشيوعيين ( الخصم الأكبر للنازيين) أو أن يكون النازيون قد استخدموا هذا الشاب للقيام بهذا الفعل لنفس الغاية والهدف، وبغض النظر عن صحة أيهما فقد نجحوا للأسف في السير في  مخططاتهم!

هكذا ضمن هذه الاجواء جرت انتخابات  آذار/ مارس 1933، بنسبة مشاركة عالية للغاية بلغت 89%.  وحصل النازيون على 43.9% من الأصوات، لكنها هذه المرة أيضاً  لم تكن كافية للسيطرة على البرلمان وتمرير كل القرارات.

لذلك تقدم هتلر باقتراح إلى البرلمان اسمه قانون التمكين الذي يمنحه سلطة الحكم بالمراسيم بدلاً من تمرير القوانين عبر البرلمان والرئيس.

في هذه الاثناء كانت كتيبة العاصفة SA  وقوات الأمن الخاصةSS  قد شنت حملة عنيفة من الملاحقات والتصفيات استمرت لمدة شهر لتخويف أو اعتقال المعارضين أو منتقدي الحزب.

وكنتيجة لهذه التطورات والظروف تمت الموافقة على مشروع القانون بأغلبية 444 صوتًا مقابل 94 صوتًا. ومنذ هذه اللحظة أصبح بإمكان هتلر الحكم  بموجب مراسيمه الخاصة !

من خلال هذه المراجعة السريعة يتضح بأن نجاح الحزب النازي في الانتخابات لم يكن كافياً للاستئثار  بالسلطة المطلقة وتحويل الدولة إلى دولة الحزب الواحد أو القائد الأوحد، بل أن استخدام العنف وترهيب الخصوم السياسيين بالإضافة إلى بث الذعر والخوف بين  الناس كما في حالة حريق البرلمان هو الذي مكنّهم من الاستحواذ على الدولة!

استناداً إلى التجربة التي عاشتها أوروبا في ظل الحكم الفاشي في إيطاليا والنازي في المانيا ونتائجها المريرة، تحوّلت مسألة كيفية التعامل مع الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تكتسح الشارع الاوربي وتفوز بالانتخابات البرلمانية، إلى ما يشبه المعضلة أو الفوبيا بسبب الذاكرة الجمعية القريبة التي مازالت تحتفظ بمآسي الحرب العالمية الثانية !

فهناك فريق  يقترح الاحتواء أي المشاركة مع احزاب اليمين المتطرف في الحكم بدل مقاطعتها بشكل مطلق، فالمقاطعة برأي هذا الفريق يزيد من شعبيتها ويمنحها فرصة ادعاء  المظلومية؛ فقد فازت بالنسبة الاعلى وبطريقة ديمقراطية لكنها محرومة أو ممنوعة من تمثيل ناخبيها الذين تفوق نسبتهم ثلث الناخبين في بعض البلدان!

وهنالك فريق آخر يقترح المقاطعة الكاملة أو الالتزام بما يُعرف بميثاق كوردون سنيتر ( الطوق الصحي) الذي وُجد كرد فعل على عودة الأحزاب اليمنية إلى الظهور بعد الحرب العالمية الثانية . وهو تعهد غير مكتوب بين مختلف الأحزاب يقضي برفض  االمشاركة مع اليمين المتطرف في تشكيل أي حكومة حتى لو حصل على النسبة الأعلى من الأصوات! فالاحتواء والمشاركة  مع هذا التيار يؤدي برأي هذا الفريق إلى تغييرات دائمة: فهو يعمل على تطبيع اليمين المتطرف، وتطرف الحوار السياسي، ويؤدي إلى سياسات غير ليبرالية تقوض القيم الديمقراطية.

شخصياً أميل إلى الرأي الأول، إذ أن المشاركة معهم في تشكيل الحكومة يخدم هدفين: تخفيف الانقسام والاستقطاب داخل المجتمع، إذ أن الشريحة التي انتخبتهم ليست بالصغيرة (ملايين الناخبين في بعض البلدان) وبالتالي فإن عدم احترام خياراتهم يؤدي إلى احتقان المجتمع، والهدف الثاني هو انكشاف هذه الأحزاب أمام ناخبيها، إذ أنها بمجرد الجلوس في الصف الأول ( مقاعد الحكومة) تتراجع عن الكثير من الوعود التي تعهدت بها أثناء الحملة الانتخابية، الامر الذي  من شأنه دفع الكثير من أنصارها إلى الابتعاد عنها! قد يصلح الحالة الهولندية حكماً في صحة هذا الرأي.

أخيراً وليس آخراً، ونحن نتحدث عن السلطة والعنف والتطرف، لا بد هنا من الاشارة إلى مسألة هامة وهي أن استخدام العنف، بما يتضمنه من تصفيات واعتقالات وملاحقات واضطهاد  وتكميم للأفواه،  كآلية للاستفراد بالسلطة لم تقتصر على النازية، فكل الاحزاب المتطرفة ( يسارية كانت أم يمنية، أممية كانت أم قومية أو دينية، في الشرق أو الغرب ) التي وصلت  إلى السلطة سواء بالانتخابات أو بالثورة استخدمت نفس الآلية لكن كل على طريقته؛ من حكم البلاشفة  والأنظمة التي سارت في دربهم، مروراً بتجربة الضباط الاحرار ومن استلهم تجربتهم، وصولاً إلى الثورة الخمينية ومن حاول الاقتداء بها!

فالشرعية الثورية أو الانتخابية ليست تخويلاً أبدياً أو تكليفاً غير منتهية الصلاحية!

شارك هذا المقال: